على الرغم من أن خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليل الأربعاء، بعد ساعات من الهجوم الصاروخي الإيراني على جنود أمريكيين في قواعد عسكرية عراقية، قد ساهم في تجاوز خطر نشوب حرب بين الطرفين وفي عدم حصول تصعيد عسكري، إلا أنه أرسل إشارات واضحة بإمكانية فتح صفحة جديدة يجب استثمارها، داعيا أطراف عديدة، من ضمنها روسيا والصين والدول الأوروبية إضافة إلى إيران، لطي مرحلة ما قبل اغتيال زعيم فيلق القدس قاسم سليماني، والاستعداد لمرحلة ما بعد سليماني.
فإضافة إلى إحجامه عن توجيه ضربة عسكرية ضد إيران وتراجعه عن تصريحات قديمة باستهداف ٥٢ نقطة إيرانية في حال أقدمت طهران على مهاجمة المصالح الأمريكية، خاصة إذا اعتبرنا ذلك بمثابة دعوة للإيرانيين للتفاهم حول مرحلة ما بعد سليماني، طالب ترامب أطراف الاتفاق النووي المبرم في ٢٠١٥ بالتخلي عنه والعمل على اتفاق جديد. كذلك طالب “الناتو” بالتواجد بشكل أكبر في المنطقة.
وفي حال قبلت طهران أن تتعاطى إيجابيا مع خطاب ترامب، وأن تتفهّم المرحلة السياسية الجديدة، وتُراجع دورها الإقليمي، وتقبل الجلوس على طاولة المفاوضات مع واشنطن، فإن ذلك قد يعني إقتناعها بصعوبة التعاطي مع مرحلة ما بعد سليماني وفق الأدوات التي كانت بحوزتها قبل اغتيال سليماني، وأقصد من ذلك الاقتناع بصعوبة استمرار النهج التوسعي السليماني السابق راهنا. فخطاب ترامب يصب في هذا الاتجاه. والصفحة الإيرانية المتوقع فتحها مع واشنطن قد تتوافق مع ما حققته طهران من مكتسبات، سياسية واقتصادية ومالية، في عام ٢٠١٥ بعد توقيعها للإتفاق النووي، وسيكون على حساب تراجع دورها الإقليمي التوسعي.
وإذا ما تمعنّا في تصريحات وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف التي تلت الهجمات الصاروخية، والتي قال فيها إنّ الهجمات هي إجراء انتقامي “متكافئ”، وإن طهران ستكتفي بهذا الرد ولا تسعى للتصعيد، موضحا أن بلاده استكملت إجراءات متكافئة في إطار الدفاع عن النفس بموجب المادة ٥١ من ميثاق الأمم المتحدة، سنجد بأنها تخدم مساعي إنهاء حالة التشنج والتصعيد العسكري والحرب، وتهدف لفتح الصفحة الجديدة، خاصة وأنّ لوزير الخارجية الإيراني تصريحات عديدة سابقة تدل على قيادته مساعي الجلوس على طاولة المفاوضات. وهنا نستطيع أن نطرح بعض الأسئلة: هل كان ظريف وراء إنقاذ المنطقة من حرب؟ هل اتصل بالامريكيين (من خلال وسطاء) قبل فترة زمنية كافية من انطلاق الصواريخ الإيرانية (ثلاث ساعات، كما جاء في بعض الصحف) ليحذرهم من الهجوم؟.
حينما نلتفت إلى بعض التصريحات الأمريكية المكررة بأن واشنطن لا تهدف لتغيير النظام في إيران وإنما تسعى لتغيير السلوك الإيراني، ونجد في طهران تركيزا على أن الهجمات الصاروخية لم تكن “انتقاما” من استهداف سليماني بل مجرد “صفعة” لواشنطن، سنتنبه بأن الطرفين الإيراني والأمريكي لا يريدان أن يصعّدا الأمور ضد بعضهما، سواء سياسيا أو عسكريا، وكأنهما يسعيان لإيصال رسالة بأن هناك مرحلة جديدة تسمى مرحلة ما بعد سليماني، ولابد من استثمارها.
فأمريكياً، استمرت الدعوات المباشرة لإيران لعقد مباحثات غير مشروطة، وكان آخرها الرسالة الأمريكية إلى مجلس الأمن. بينما إيرانياً، كان واضحا استخدام طهران لأعلى مستويات القمع ضد احتجاجات نوفمبر التي هددت وجود النظام، حتى أن طهران لم تكشف حتى الآن عن عدد الضحايا، في حين بات جلياً أن السلوك الإيراني تجاه الأمريكان بعد مقتل سليماني، وبالذات بعد الضربات الصاروخية، كشف عن دلالات لإغلاق الملف بأقل الخسائر، وكأن لسان حال طهران يقول بأنها ستكون “شديدة” تجاه أي تحرك يهدف لتهديد وجود النظام ولو جاء ذلك عن طريق الإيرانيين في الداخل، و”مرنة” تجاه أي تحرك لا يهدف لتغيير النظام ولو كان ذلك أمريكيا. حتى أن أحد المراقبين الإيرانيين علّق على الهجمات الصاروخية بالقول: كان هناك تعمّد في قتل المحتجين في نوفمبر، وفي المقابل كان هناك تعمّد في عدم قتل الجنود الأمريكان في العراق.
مرحلة ما بعد سليماني، يبدو من بعض معطياتها، القليلة، لكن الجلية إلى حد ما، أنها مرحلة تَراجُع الدور الإقليمي التوسعي لإيران، وقد يكون ذلك عنصرا ضاغطا على طهران لتجرع سم جديد، يتمثّل بقبول التفاوض مع الولايات المتحدة.
فاخر السلطان
أضف تعليق