ثمّة فكرة خاطئة رائجة لدى مختلف الأوساط السياسية وحتى الاقتصادية في البلاد تعتبر استخدام المال حلاً نهائياً لأي مشكلة فنية أو اقتصادية أو خدمية تواجه المواطنين أو مجتمع الأعمال، أو حتى الدولة نفسها، بينما يفترض استخدامه ضمن أضيق الحدود وكآخر الخيارات!
ومع أن مختلف التجارب السابقة في البلاد منذ بداية الألفية على الأقل أثبتت أن المال كلما ارتفعت قيمته كان بديلاً سيئاً في معالجة الأزمة أو حتى المشكلة أو بداية لأزمة جديدة أو تعميقاً لأخرى قائمة، فإنّ المقترحات النيابية والحكومية أيضاً غالباً ما تعتبر المال حلاً ولو وقتياً لا تتجاوز آثاره أسابيع قليلة.
شراء قروض المواطنين نموذج لإيقاع الضرر بقصد المنفعة
فبعد الانتهاء من وقف استقطاع أقساط القروض مرتين، مروراً بتوزيع مكافآت المتقاعدين، إلى بدء صرف مكافآت الصفوف الأمامية وبيع الإجازات وهي بأكلاف معظمها غير معلومة قد تصل إلى مليارات الدنانير، جاءت مقترحات النواب في مجلس الأمة خلال أقل من 3 أشهر من انعقاده بقيمة قياسية بلغت 30 مليار دينار، شاملة كلفة شراء القروض وزيادات الرواتب والمعاشات التقاعدية والرعاية السكنية وبدل الإيجار، وغيرها، من دون أن يكون في أي من المقترحات حلّ لمشكلة محددة أو أزمة واضحة.
نمو وجودة
خلال 20 عاماً شهدت ميزانية الكويت ارتفاعاً بنحو 800 في المئة، وجّه معظمها إلى المواطنين مباشرة على شكل رواتب ودعومات، ومع ذلك لم تنعكس القيمة على جودة المعيشة، بل في الحقيقة عمّقت من أزمات قائمة أو أوجدت أزمة جديدة، فزيادات الرواتب ورفع بدل غلاء المعيشة مثلاً باتا مطلباً أهم من محاربة الاحتكارات أو توطين الصناعات لخفض تكاليف السلع، وبالتالي الحد من التضخم، وزيادة القرض الإسكاني، إلى جانب رفع قيمة بدل الإيجار بات هدفاً في حد ذاته لا القدرة على الحصول على سكن، وصارت بطاقة عافية والعلاج بالخارج أكثر أهمية من معالجة النظام الصحي في البلاد ورفع كفاءته.
وأحياناً تقضي الأموال على الأفكار الجيدة ذات الاستدامة، كما فعلت الحكومة عندما وزّعت منحة التأمينات، فألغت فكرة جيدة، وهي نظام جديد للادخار والاستثمار الاختياري لمن يريد رفع معاشه التقاعدي من خلال استقطاع إضافي، رغم أنها فكرة مناسبة جداً كقناة ادخار واستثمار للأسرة الكويتية أهدرها الاعتقاد بأن توزيع الهبات المالية أولى من توفير خيارات الاستدامة.
مجتمع الأعمال
بل إن النظرة الخاطئة لدور المال في معالجة الأزمة لا تقتصر على جانب المواطنين، بل حتى ما يُعرف بمجتمع الأعمال، فخلال أقرب أزمة واجهها القطاع الخاص خلال جائحة «كورونا» كان للجمعية الاقتصادية مثلاً مطالب بصندوق دعم حكومي للمشاريع الصغيرة والمتوسطة بقيمة 125 مليون دينار، دون أن تلتفت إلى الصعوبات التي تواجه هذه المشاريع بالأصل من صعوبات الحصول على الأراضي الصناعية والحرفية أو مصاعب التمويل، أو مشقة التعامل مع البيروقراطية الحكومية، فضلاً عن مطالب مجموعة من رجال الأعمال تسهيلات ودعومات للأسهم والقروض والموظفين وجميع الأعمال التجارية بقيمة مفتوحة، دون أن يبادروا بتقديم تصوّر لتوفيق الاحتياجات الاقتصادية مع الضرورات الصحية.
الكويتي صاحب تاسع أعلى دخل في العالم ينتظر نحو 20 عاماً للحصول على منزل… المشكلة ليست مالية
حتى الدولة
وحتى الدولة نفسها باتت تنسج على نفس هذا المنوال الشعبوي، فترى الحكومة أن معالجة الأوضاع الاقتصادية تأتي من بوابة مالية تتمثل في تمرير قانون «الدَّين العام» لرفع سقف الاستدانة من 10 مليارات دينار إلى 25 ملياراً، من دون تقديم أي مشروع لتلافي الاختلالات التي طالما استنزفت الفوائض المالية وسيولة الاحتياطي العام خلال أقل من 5 سنوات، كالعمل على وقف قنوات الهدر المالي أو العمل على الخروج من دوامة أحادية الاقتصاد ومحدوديته، مما قد يضعنا أمام مخاطر التعثّر المالي، بكل ما يترتب عليه من تضخّم وبطالة، وحتى خفض لقيمة العملة إن لم يواكب الاستدانة عمليات إصلاح هيكلية تضمن توجيه مليارات الاقتراض إلى مشاريع ذات عوائد اقتصادية ومالية.
وبمناسبة الحديث عن دور الدولة، يكفي أن الجهة المعنية بتوفير البيانات الضرورية اللازمة لمواجهة المقترحات الشعبوية، وهي الإدارة المركزية للإحصاء، لم تصدر منذ عام 2013 مسح الدخل والإنفاق العائلي، وهو المسح الذي يقدّم بيانات دقيقة للرأي العام ومتخذي القرار عن اتجاهات الإنفاق والاستهلاك لدى الأسر في الكويت، فضلاً عن إخفاق الإدارة نفسها، خلال جائحة كورونا، في تقديم بيانات أسعار المستهلكين عن التضخم في مواعيدها!
معالجة الحكومة للأوضاع الاقتصادية تأتي من بوابة مالية دون وقف قنوات الهدر أو العمل على تجاوز أحادية الاقتصاد ومحدوديته
مساوئ شراء القروض
ولعلنا هذه الأيام أمام نموذج لكيفية فرض فكرة أن المال هو الخيار الوحيد لتحسين الظروف المعيشية للأسر الكويتية من خلال ما يُعرف بشراء قروض المواطنين، بينما هو في حقيقته أسوأ ما يمكن تقديمه لهم، لأنه يمثّل أضراراً مباشرة وغير مباشرة، وهو بمنزلة إيقاع الضرر بقصد المنفعة، فهو من ناحية جهد في غير محله من جهة تركيزه على الأعراض أو النتائج المتمثلة في الاقتراض لا أسباب المرض، أي تلك التي تدفع المواطنين للاقتراض كصعوبة الحصول على سكن، أو لسوء النظامين التعليمي والصحي، إلى جانب أن شراء الدولة للقروض سيعمل على رفع مستويات السيولة في السوق، وبالتالي ارتفاع الطلب على السلع الضرورية وغير الضرورية، مما سيؤدي إلى زيادة إضافية في نسب التضخم في البلاد، كذلك يدعم إسقاط القروض ذلك الشعور الزائف بالرفاهية، فيحفز على المزيد من الاقتراض، فضلاً عن أنه يظلم أصحاب الدخول المنخفضة أو المستحقين لتوفير المزيد من أنظمة الرعاية الاجتماعية في كل مرة يطرح فيها موضوع إسقاط القروض.
تراجع الرفاهية
قد استخدمت الكويت فوائضها المليارية خلال السنوات الماضية كأداة لتأجيل معالجة إخفاقات السكن والخدمات العامة والبنية التحتية حتى تراجع ترتيبها خلال آخر 10 سنوات على مؤشر «ليغاتوم» للرفاهية، وهو مؤشر لا يقيس الرفاهية والرخاء من منطلق مالي، إنما بمعايير أخرى كجودة الحياة الاقتصادية والتعليم والصحة والسلامة والأمن والبيئة من 31 عالمياً إلى الترتيب 58، كذلك الأمر ذاته على ترتيب الكويت على مؤشرات المنتدى الاقتصادي العالمي، إذ إن واحدة من المشكلات التي تعانيها الكويت تتمثل في أن تنامي الإنفاق المالي يقابله انخفاض في مستوى الخدمات العامة… فالمواطن الكويتي صاحب تاسع أعلى دخل في العالم ينتظر لنحو 15 إلى 20 عاماً للحصول على منزل، مما يبين بوضوح أن المشكلة ليست مالية أبداً.
ويبدو أن الفترة القادمة ستستخدم نفس الأداة لتأجيل معالجة إخفاقات الدولة، ولكن هذه المرة من أموال استدانة الدولة، وفي ذلك مخاطر واسعة تتعلق بالتعثّر والعجز عن السداد، مادامت دخلتها دول منها نفطية ثرية، فتدهورت أوضاعها كضحية للشعبوية وسوء الإدارة.
محمد البغلي / الجريدة
أضف تعليق