قيلولة: «صباح».. شمسٌ طويلة المدى
صالح الشايجي
خجلت بلابل الشرق أن تغرد.. حين تهمهم «صباح»..
«شحرورة» كفلها عمٌّ «شحرور».. ونذرها لواديه..
جبال تفتتت..وقلوب تعطرت..وألسنة تعطلت..
دكاكين النصيحة.. أفواه لا تنقطع..
الصمت المنجى الوحيد والأكيد من الناصحين..
تعدّدت الأديان والقلب واحد
«صباح».. شمسٌ طويلة المدى والزمن والسنين..
شمسٌ ذهبية الشعاع..
فوّاحةٌ..صدّاحة..
وامرأةٌ.. منقطعة النظير
وأغنيةٌ ..متواصلة الأنفاس..
***
موجة من غيم أزرق..
وديمة طروب..
تمطر كل الشوق..
وتسكب كل الحنين..
وإن «آهت»..أسكرت بآهاتها الجبل الأصم..
وكم من جبال تفتتت..
وقلوب تعطرت..
وألسنة تعطلت..
وعيون جاست في ذلك الجسد الشفاف..بحثا عن متعة التزود بغنيمة العين السارقة من البهاء الأبيض.. بياضا ليوم أسود..
***
«شحرورة» كفلها عمٌ «شحرور»..
ونذرها لوادٍ ذي زرع.. ولأرزة مزمنة الوجد متناهية الوجود..
فكبرت على الوادي.. واتخذت من الأرض فضاء يحملها ولا يضيق..
***
«صباح»..امرأة حاكت خيوط حياتها بيديها..
خانها الخلان.. وخانتهم..
وتعلقت بالدنيا حتى آخر رجل..
وما طرق محبُ قلبها وعاد خائبا..
فتعدد الرجال في دروب عمرها الطويل..
وحصدت منهم أنصبة عشر نساء وأزيد..
وكلما خرج حبيب من قلب..
دخل عشيق من قلب جديد..
عاشت حياتها «لا تكذب ولكن تتجمل»..
حتى استوطنها الجمال. وسلمها بيارقه.. وقال لها «هيت لك»..
***
كأنما الغناء كان يبحث عن ضالته فلما وجدها خلع عليها تاجه..
روت بصوتها وروّت.. وأروت..
خجلت بلابل الشرق أن تغرد.. حين تهمهم «صباح»..
وحين تغني.. تولّي بأجنحة خجولة..
حزنت عليها فساتينها.. حين تخلعها..
وتمنى كلٌّ منها.. أن يبقى رهين ذلك الجسد..
يتحسس بياض اللحم المستور..ويغار من المنكشف..
وودّ لو يمتد.. ليستر ذلك المنكشف..
***
امرأة تقاطرت عليها الأسماع من كل حدب جدب..وصوب ريّان..
وبصوت رنّان..
غنت كل الألحان..
لم تنس من الحب.. شعيرة من شعائره إلاّ وأشبعتها غناء..
ولا جبلا نسيت ولا واديا ولا بحرا ولا غيمة..
أمّا الأوطان.. فكانت ذخائر في صوتها..
فهي شمس في لبنان.. وقمر تلألأ في مصر..
وسحابة من نجوم زينت السماوات العربية وزرعت في كل بلد نصيبه..
هي «الصبوحة» و«شحرورة الوادي» و«الأسطورة» و«الأنيقة» و«الجميلة» وهي «جانيت فغالي».. اللبنانية بنت الجبل الذي لاتهزمه الرياح ولا تهزه البراكين.. وكأنما هذا الجبل ورّثها خصلة البقاء.. والصمود.. و«رندح» في اذنيها.. «الميجانا».. وزوّجها «أبو الزلف».. وجعل من «العتابا» بنتها البكر..
هذه المرأة «اللبنيّة».. راب اليوم لبنها وتخثّر..
وهن بها زمنها..
غدت كقارورة عطر جف أريجها..
تسلقت سرير المرض بصمت لحوح..
باتت ذكرى لأسطورة مصدّقة..
مات رفاق فراشها.. ولم يبق منهم الّا القليل..
تزوجت مصريين عددا.. ولبنانيين عددا..
وتعدّدت الأديان.. والقلب واحد..
وآخت بين الأرزة والهرم..
والهلال والصليب..
والمحيط والخليج..
***
«صباح».. «الأسطورة».. مسطورة اليوم على سرير لا يئن من عظامها الواهنة..
ولا يمل جسدها المتلاشي..
ولا يشكو بقاياها المنسحبة..
فارحموها ولا تجعلوها صيد كاميراتكم المتلصصة على موتها..
دعوها تنسحب بما كانت تملك من صخب الدنيا..
ودعوا جمالها مخزّنا في العيون..
***
دعوا المرأة الواهنة..
دعوا «صباح» الصامتة..
لا تقتلوها في عيوننا.. قبل ساعة الموت الآتية بلا ريب فيها..
نكاد نسمع تكتكات دقائقها في قلبٍ.. لم تهزمه الحياة..
دكاكين النصيحة
نتداعى الى الحديث.. تلو الحديث.. والسالفة في أعقاب المدبرة.. وتتصحر المساحة المغروزة بيننا بورد شائك.. وبشك مورّد..
كأنما الشك ـ لا اليقين ـ أساس الحديث.. ورأس الحكمة..
والكل يعظ.. والجميع ينصح..
وكأنما أنت أيها المنصوح.. ولدت دون سائر الناصحين الواعظين.. ناقصا عقلا.. وقاصرا رشادا.. وفاقدا التمييز بين الابيض الصادق والأسود الكذاب.. وكأنّما قدرك أن تقضي حياتك بين ناصح وواعظ ومعلم وملقّن ومحذّر..
أنت.. ما انت ـ في نظر الناصحين المرشدين ـ الّا ضحية متقاطرة الدم.. متعدّدة السكاكين.. أجهز عليها القصابون في فجر مبكر..
هذا نصّاب فاحذره.. وذاك كذّاب فلا تصدّقه.. وهذه تستغل طيبتك.. وتلك تخدعك..
وهذا الطريق وعرٌ فلا تسلكه.. وعليك بذاك الطريق فهو مزروع بالورود.. والماء ينساب على جانبيه زلالا..
لا تبذّر.. لا تتسافه.. لا تحكِ.. لا تصدق.. لا تصادق.. لا تباعد.. لا تقارب..
لا يليق بك الابيض فلا تلبسه.. امّا الاسود فيجعلك كالعرجون القديم.. والاحمر ليس للرجال.. والاخضر هزيمة منكرة.. والازرق سفهٌ..
يعرونك.. من الالوان كافة..
يكشفون عورة عظامك قبل رميمها.. ويعيدون هيكلتها كما يشتهون.. لا كما يشتهي لحمها الحامي وهنها..
يسلبون حقك في «التجربة والخطأ».. ويمنعونك عن حق التجريب.. ويسدون عليك ابواب المغامرة.. ويحبسونك في مغارة نصائحهم.. وفي كهوف عقولهم التي يحسبونها رشيدة ـ وما هي كذلك ـ فهم المجربون الخبراء الحكماء.. «المقطعين السمكة وذيلها» و«المفتحين في اللبن».. و«اللي مكسّر على راسهم العنقيش» أما انت فما زلت اعمى ذا عينين مطمستين لا تريان ولا تعرفان سواء السبيل.. كثير السقطات.. متعدد المهاوي.. متوالي الزلّات..
يشرّق بك الهوى ويغرّب.. غرٌّ غريرٌ.. جاهل.. طائش.. نزق.. منزوع الصواب..
خطّاء كبطن الزانية..
ضالٌّ لا سبيل الى رشادك..
غاوٍ..
غادٍ في طريق الهلاك معصوب العينين..
لا تميّز بين الحق والباطل..
مغدور.. مسلوب..
مصلوب على صارية الخداع ولا دم يسيل من عرقك.
***
وأنا محدثكم ـ والداعي لكم بعمر اطول من عمر «صباح» الشحرورة المرثية حية فيما سلف من هذه الصفحة ـ انتمي الى هذه الفئة المنصوحة.. الضالة النزقة الساذجة البلهاء المغدورة الغاوية الغادية.. المكتوية بنيران النصيحة من كل سابل في كل سبيل.. ومن كل أصم أبكم.. فمن لم يقدر على نصحي بلسانه نصحني بالإشارة..وله أجراها المقدم والمؤجل..ولي أذنان أثقلتهما النصائح وأشبعهما الوعظ والإرشاد..
تكالب علي الناصحون من كل فج..قريب وبعيد..
عامل محطة البنزين.. يزوّدني ـ بلسان بنغلاديشي فصيح ـ بنصائحه التي ورثها عن جدة جد أبيه.. التي ماتت قبل أن يولد «بوذا» بثلاثة عشر قرنا..
وعامل المصعد.. يستغل الثواني القليلة التي يغنمها معي من الصعود إلى الإنزال.. لينصحني.. كيف أعتلي متن المصعد.. والطريقة المثلى للهبوط بسلام ودونما حاجة للاستعانة ببرج المراقبة ولا بنشرة الأحوال الجوية ولا فتاوى مشايخ الفضائيات..
والبائع في الجمعية التعاونية ينصحني ويوجهني خوفا على «حضرتي» من الوقوع في شرك الصهيونية والإمبريالية وما يحاك لأمتنا العربية من مؤامرات ودسائس و«دشاديش» سوف تلبسها في يوم ذي مشأمة..
***
أحكي لصديق ـ وأنا مبتهج مسرور منتفخ الأوداج.. محمر الوجنات.. باسم الثغر «حلو اللفتات».. حادثة مرت عليّ وأشرح تفاصيلها وأعرّج على شخصياتها.. امتدح هذا وأقدح بذاك.. أغمر هذه بعسل الورد.. وأمطر تلك بلعنات مرهونة للوقف..فألاحظ الصديق وقد تبرم..وسرح عني بناظريه بعيدا دلالة عدم الاكتراث وسُقم حديثي.. وسذاجتي التي بدت له واضحة جلية بعد فحصها بالأشعة فوق البنفسجية وتحت القرمزية.. ليشحذ سكاكين نصحه.. وما أن أنتهي من أقوالي السقيمة ـ برأي صاحبي وبعينيه وأذنيه ـ حتى يُكبّر تكبيرة الذبح الحلال.. ويوجه أذني وجهة القبلة.. ويشرع بالنصيحة الذباحة ذبحا شرعيا حلالا بلالا..
يبدأ بالجملة المعتادة.. «إي بس ترى دير بالك.».. ليبدأ بعدها دش النصيحة البارد.. ودرس الأخلاق المكرور..لأكتشف بعد حين من الدقائق أنني كنت مغدورا.. مسلوبا.. مضحوكا عليّ.. وبأن فلانا هذا «مع احترامي لكونه صديقك».. «دير بالك منه تراه ثعلب مكار».. و«ميّة من تحت تبن».. (والحمد لله أن الاحترام كان موجودا).. وإلّا لكان صديقي الذي تحدثت عنه.. أشرّ خلق الله في رأي صاحبي الذي قصصت عليه قصتي وسولفت عليه سالفتي..
***
يكثر الحكماء والعقلاء والمجرّبون والناصحون وأصحاب الخبرة ومن عركتهم الدنيا وعرفوا دهاليزها وكهوفها ومغاراتها.. ويتجمعون في حلقة مستديرة حولك ـ إذا كنت من نوعيتي ـ ليبدأوا موشحات النصح والإرشاد.. وماذا عليك أن تعمل.. وما يتعيّن عليك الامتناع عنه..
وأنت في نظر جوقة الحكماء تلك.. سفيه أو حتى رضيع لم تبلغ الفطام بعد.. وأنت لا تعرف مصلحتك..ولا تحسن السير في دروب حياتك..
أنت خطأ الدنيا وخطيئتها ووصمة عار في جبين الأرض.. «ولو ما أحبك وأخاف عليك.. ما كنت قلت هالكلام»..
هكذا ينهي صاحبنا الحكيم الحكاية أو موّال النصيحة الممل.. متيقنا أنه محقٌّ فيما قال وأنشد.. ولم تخرج من فيه إلّا جواهر ودرر خصك بها لأنك عزيز عليه و«مايبي أحد يضحك عليك».. مفترضا أن الناس كلهم سباع وضباع وذئاب تفترسك.. وأنت في هذه الدنيا إما حمل وديع ما زلت لبني الأسنان تلوب وراء ضرع أمك النعجة.. أو أنك أرنب في الغابة السافرة الخوف تعيش بين المفترسين ذوي الأنياب النهاشة.. وهو يريد إنقاذك من هول الافتراس الحي.. بنصائحه وإرشاداته وعظاته..
***
فإن كنت يا صديقي القارئ ويا صديقتي القارئة تنتميان إلى فصيلتي.. أي أنكما تتحدثان مع الأصدقاء وترويان لهما حكاياتكما ثم تتعرضان لدروس الحكمة والعظة والتوجيه والتشكيك في قدراتكم العقلية.. فاعملا عملي.. والتزما جادة الصمت ولا تحكيا لزمرة الأصدقاء الحكماء ما مر بكما.. فذلك هو الطريق الوحيد الواقي من سماع أحكام أصدقائكما الحكماء..وما أكثرهم! فحيثما التفتما وجدتما حكيما.. بل إن جل من ترون في نهاراتكم أو لياليكم هم من فصيلة الحكماء..
لذلك فإن عليكما بالصمت لأن الصمت منجى.. وهو الحامي من سماع النصائح وتقليل عدد الحكماء والناصحين!
أضف تعليق